فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} [البلد: 5] أقام الدلالة على كمال قدرته فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين (8)}
وعجائب هذه الأعضاء مذكورة في كتب التشريح، قال أهل العربية: النجد الطريق في ارتفاع فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار، وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في النجدين وهو أنهما سبيلا الخير والشر، وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: «إنما هما النجدان، نجد الخير ونجد الشر، ولا يكون نجد الشر، أحب إلى أحدكم من نجد الخير» وهذه الآية كالآية في: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} إلى قوله: {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 1-3] وقال الحسن: قال: {أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا} فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل: الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك، وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب، أنهما الثديان، ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، والله تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعها، قال القفال: والتأويل هو الأول، ثم قرر وجه الاستدلال به، فقال: إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلباً عقولاً ولساناً قولاً، فهو على إهلاك ما خلق قادر، وبما يخفيه المخلوق عالم، فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه وما الحجة في الكفر بالله من تظاهر نعمه، وما العلة في التعزيز على الله وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له، وهو الممكن من الانتفاع به.
ثم إنه سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال، وعرف هذا الكافر أن إنفاقه كان فاسداً وغير مفيد، فقال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الاقتحام الدخول في الأمر الشديد يقال: قحم يقحم قحوماً، واقتحم اقتحاماً وتقحم تقحماً إذا ركب القحم، وهي المهالك والأمور العظام والعقبة طريق في الجبل، وَعْرٌ، الجمع العقب والعقاب، ثم ذكر المفسرون في {العقبة} هاهنا وجهين الأول: أنها في الآخرة وقال عطاء: يريد عقبة جهنم، وقال الكلبي: هي عقبة بين الجنة والنار، وقال ابن عمرهي: جبل زلال في جهنم وقال مجاهد والضحاك: هي الصراط يضرب على جهنم، وهو معنى قول الكلبي: إنها عقبة الجنة والنار، قال الواحدي: وهذا تفسير فيه نظر لأن من المعلوم أن (بني) هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات، ويدل عليه أنه لما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} [البلد: 12] فسره بفك الرقبة وبالإطعام.
الوجه الثاني: في تفسير {العقبة} هو أن ذكر {العقبة} هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر، وهو قول الحسن ومقاتل: قال الحسن عقبة الله شديدة وهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه من شياطين الإنس والجن، وأقول هذا التفسير هو الحق لأن الإنسان يريد أن يترقى من عالم الحس والخيال إلى يفاع عالم الأنوار الإلهية ولا شك أن بينه وبينها عقبات سامية دونها صواعق حامية، ومجاوزتها صعبة والترقي إليها شديد.
المسألة الثانية:
أن في الآية إشكالاً وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة، تقول: لا جنبني ولا بعدني قال تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] وفي هذه الآية ما جاء التكرير فما السبب فيه؟ أجيب عنه من وجوه الأول: قال الزجاج: إنها متكررة في المعنى لأن معنى {فَلاَ اقتحم العقبة} فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك، وقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17] يدل أيضاً على معنى {فَلاَ اقتحم العقبة} ولا آمن الثاني: قال أبو على الفارسي: معنى {فَلاَ اقتحم العقبة} لم يقتحمها، وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} فهو كتكرر ولم: نحو {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67].
المسألة الثالثة:
قال القفال: قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} أي هلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة؟ وأما الباقون فإنهم أجروا اللفظ على ظاهره وهو الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة (12)}
فلابد من تقدير محذوف، لأن العقبة لا تكون فك رقبة، فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لأمر التزام الدين.
ثم قال تعالى: {فَكُّ رقبة (13)}
والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل، وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية، ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الكتاب، قال الفراء: في (المصادر) فكها يفكها فكاكاً بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها، ويقال: كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد، ثم سمي إطلاق الأسير فكاكاً، قال الأخطل:
أبنى كليب إن عمى اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلال

المسألة الثانية:
فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق، وقد يكون بأن يعطي مكاتباً ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه، روى البراء بن عازب، قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: عتق النسمة وفك الرقبة قال: يا رسول الله أوليسا واحدًا؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة، أن تعين في ثمنها» وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى، ويتخلص بها من النار.
المسألة الثالثة:
قرئ: {فك رقبة أو إطعام}، والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرئ: (فك رقبة أو أطعم) على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} اعتراض، قال الفراء: وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله: {ثُمَّ كَانَ} [البلد: 16] لأن فك وأطعم فعل، وقوله: {كان} فعل، وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلاً، أما لو قيل: ثم إن كان (1) كان ذلك مناسباً لقوله: {فَكُّ رقبة} بالرفع لأنه يكون عطفاً للاسم على الاسم.
المسألة الرابعة:
عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات، وعند صاحبية الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبي حنيفة: لتقدم العتق على الصدقة فيها.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة (14)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
يقال: سغب سغباً إذا جاع فهو ساغب وسغبان، قال صاحب (الكشاف): المسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة.
قال الواحدي: المتربة مصدر من قولهم ترب يترب ترباً و{متربة} مثل {مسغبة} إذا افتقر حتى لصق بالتراب.
المسألة الثانية:
حاصل القول في تفسير: {يَوْمٍ ذِى مسغبة} ما قاله الحسن: وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام، قال أبو على: ومعناه ما يقول النحويون في قولهم: ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم.
واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر، وهو كقوله: {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177] وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ مِسْكِيناً} [الإنسان: 8] وقرأ الحسن: {ذا مسغبة} نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.
أما قوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مقربة (15)}
قال الزجاج: ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر، قال مقاتل: يعني يتيماً بينه وبينه قرابة، فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة، فإطعامه أفضل، وقيل: يدخل فيه القرب بالجوار، كما يدخل فيه القرب بالنسب.
أما قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا متربة (16)}
أي مسكيناً قد لصق بالتراب من فقره وضره، فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه، روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال: هذا الذي قال الله تعالى فيه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً، لأنه لو كان لفظ المسكين دليلاً على أنه لا يملك شيئاً ألبتة، لكان تقييده بقوله: {ذَا متربة} تكريراً وهو غير جائز. اهـ.

.قال القرطبي:

ثم عَدّد عليه نعمه فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين} يبصر بهما {وَلِسَاناً} ينطق به.
{وشفتين} يستُر بهما ثغره.
والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونُحصِيَ عليه ما عمله.
وقال أبو حازم: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: يا ابن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرّمتُ عليك، فقد أَعنْتُكَ عليه بطبقين، فأطبِق؛ وإن نازعك بصرك فيما حرّمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطْبِق؛ وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمتُ عليك، فقد أعنتك عليه بطبقَين، فأطبق» والشَّفَة: أصلها شَفْهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شُفيهة، والجمع: شِفاهٌ.
ويقال: شَفَهات وشَفَوات؛ والهاء أقيس، والواو أعمّ، تشبيهاً بالسنوات.
وقال الأزهريّ: يقال هذه شَفَة في الوصل وشَفَةٌ، بالتاء والهاء.
وقال قتادة: نِعَم الله ظاهرة، يقرّرك بها حتى تشكر.
{وَهَدَيْنَاهُ النجدين (10)}
يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.
أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسُل.
والنجد.
الطريق في ارتفاع.
وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
وروى قتادة قال: ذُكِر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أَيُّها الناسُ، إِنَّما هما النَّجْدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلِم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير» ورُوي عن عكرمة قال: النَّجدان: الثديان.
وهو قول سعيد بن المسيّب والضحاك، وروِي عن ابن عباس وعليّ رضي الله عنهما؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه.
فالنجد: العُلُوّ، وجمعه نُجُود؛ ومنه سُمِّيَتْ (نجد)، لارتفاعها عن انخفاض تِهامة.
فالنجدان: الطريقان العاليان.
قال امرؤ القيس:
فريقان منهمْ جازعٌ بَطْنَ نخلةٍ ** وآخرُ منهم قاطِعٌ نجدَ كَبْكَبِ

{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11)}
أي فهلا أنفق ماله الذي أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن! والاقتحام: الرّمْيُ بالنفس في شيء من غير رَوِية؛ يقال منه: قَحَم في الأَمْر قُحوماً: أي رمى بنفسه فيه من غير روِية.
وقَحَّم الفَرَس فارسَه تقحيماً على وجهه: إذا رماه.
وتقحيم النفسِ في الشيء: إدخالها فيه من غير روِية.
والقُحْمة (بالضم) المَهْلَكة، والسنة الشديدة.
يقال: أصابت الأعراب القُحْمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف.
والقُحَم: صِعاب الطريق.
وقال الفرّاء والزجاج: وذكر (لا) مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر؛ كقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] {ولا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62] وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه؛ فيجوز أن يكون قوله: {ثم كان من الذِين آمنوا} قائماً مقام التكرير؛ كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقيل: هو جارٍ مجرى الدعاء؛ كقوله: لا نجا ولا سلِم.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}؟ قال سفيان بن عُيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك}؟ فإنه أَخْبَر به، وكل شيء قال فيه {وما يدريك}؟ فإنه لم يخبر به.
وقال: معنى {فَلاَ اقتحم العقبة} أي فلم يقتحم العقبة؛ كقول زُهَير:
وكانَ طَوَى كَشْحاً على مُسْتكِنَّةٍ ** فلا هُوَ أَبداها ولم يَتَقدّمِ

أي فلم يبدها ولم يتقدّم.
وكذا قال المبرّد وأبو على (لا): بمعنى لم.
وذكره البخارِيّ عن مجاهد.
أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير.
ثم فَسَّر العقبة وركوبها فقال: {فَكُّ رقبة} وكذا وكذا؛ فبين وجوهاً من القُرَب المالية.
وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة.
يقول: هلا أنفق ماله في فكّ الرقاب، وإطعام السَّغْبان، ليجاوز به العقبة؛ فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قيل: اقتحام العقبة هاهنا ضرب مَثَل، أي هل تَحَمَّل عِظام الأمور في إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به.
وهذا إنما يليق بقول من حمل {فَلاَ اقتحم العقبة} على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا.
وقيل: شبه عِظم الذنوب وثِقلها وشدّتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمِل صالحاً، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله.
قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم.
وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مَصْعَدُها سبعة آلاف سنة، ومهبِطها سبعة آلاف سنة وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجِسر، فاقتحِمُوها بطاعة الله.
وقال مجاهد والضحاك والكلبِي: هي الصراط يُضْرب على جهنم كحدّ السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلاً وصُعوداً وهُبوطاً.
واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.
وقيل: اقتحامه عليه قدرُ ما يصلي صلاة المكتوبة.
وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أَنْجَى الناسِ منها أخفهم حِمْلاً.
وقيل: النار نفسها هي العقبة.
فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يُعْتق رقبة إلا كانت فداءه من النار.
وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضواً منه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار، حتى فرجَه بفرجه» وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما امرئٍ مُسْلِمٍ أعتقَ امْرأً مُسْلِماً، كان فَكَاكَهُ من النار، يَجْزِي كل عضو منه عضواً منه، وأيُّما امرأة مسلمة أعتقتْ امرأة مُسلمة، كانت فَكاكَها من النار، يجزي كل عضو منها عضواً منها» قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقيل: العقبة خلاصه من هول العَرْض.
وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر.
وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان.
وأنشد بعضهم:
إني بُلِيتُ بأربعٍ يَرْميننَي ** بالنَّبْل قد نَصَبوا على شِراكا

إبليسُ والدنيا ونفسي والهوَى ** من أين أرجو بينهن فَكاكا

يا ربِّ ساعدني بعفوٍ إنني ** أصبحت لا أرجو لهن سِواكا

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة (12)}
فيه حذف؛ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.
وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين؛ والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة.
قال القشيريّ: وحمل العقبة على عَقَبة جَهنم بعيد؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلاَّ صَيَّر نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غداً.
واختار البخارِيّ قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا.
قال ابن العربيّ: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}؟ ثم قال في الآية الثالثة: {فَكُّ رقبة}، وفي الآية الرابعة {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة}، ثم قال في الآية الخامسة: {يَتِيماً ذَا مقربة}، ثم قال في الآية السادسة: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة}؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.
المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يُسَهِّل عليه سلوك العقبة في الآخرة.
{فَكُّ رقبة (13)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَكُّ رقبة} فكها: خلاصها من الأسر.
وقيل: من الرّق.
وفي الحديث: «وفك الرقبة أن تُعِين في ثَمَنها» من حديث البرَاء، وقد تقدم في سورة (براءة).
والفكّ: هو حلّ القيد؛ والرِّق قيد.
وسمى المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته.
وسُمِّي عنقها فَكًّا كفك الأسير من الأَسْر.
قال حسان:
كَمْ من أسيرٍ فَكَكناه بلا ثَمَنٍ ** وجَزّ ناصيةٍ كنا مَوَاليها

وروى عُقبة بن عامر الجهنيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار» قال الماوردِيّ: ويحتمِل ثانياً أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات؛ ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.
الثانية: قوله تعالى: {رقبة} قال أصْبَغُ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العِتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد سُئل أيّ الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها» ابن العربيّ: والمراد في هذا الحديث: (من المسلمين)؛ بدليل قوله عليه السلام: «مَنْ أَعْتَقَ امْرأً مسْلماً» و«مَنْ أَعتقَ رقبة مُوْمِنة» وما ذكره أصبغ وَهْلَة، وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى.
الثالثة: العِتق والصدقة من أفضل الأعمال.
وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة.
وعند صاحبيه الصدقة أفضل.
والآية أدل على قول أبي حنيفة؛ لتقديم العتق على الصدقة.
وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً من النار»
قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة}
أي مجَاعة.
والسَّغَب: الجوع.
والساغب: الجائع وقرأ الحسن {أو إِطعامٌ فِي يومٍ ذا مسغبة} بالألف في {ذا} وأنشد أبو عبيدة:
فلَوْ كنتُ جاراً يابن قَيْسٍ بن عاصمٍ ** لَمَا بِتَّ شَبْعاناً وجارُك ساغِبا

وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السَّغَب الذي هو الجوع أفضل.
وقال النَّخَعِيّ في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} قال: في يوم عزيز فيه الطعام.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من موجِباتِ الرحمةِ إطعامُ المُسْلِم السَّغْبانَ» {يَتِيماً ذَا مقربة} أي قرابة.
يقال: فلان ذو قرابتي وذو مَقْرَبتي.
يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يَكْفله.
وأهل اللغة يقولون: سُمِّي يتيماً لضعفه.
يقال: يَتُمَ الرجل يُتْماً: إذا ضعف.
وذكروا أن اليَتيم في الناس من قِبل الأب، وفي البهائم من قِبل الأمهات.
وقد مضى في سورة (البقرة) مُسْتوفًى، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه.
وقال قيس بن الملَّوح:
إلَى الله أشكو فقد لَيْلَى كما شَكا ** إلَى الله فقد الوالِدَيْن يَتِيمُ

قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} أي لا شيء له، حتى كأنه قد لصِق بالتّراب من الفقر، ليس له مَأْوًى إلا التراب.
قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له.
مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لِباس ولا غيره.
وقال قتادة: إنه ذو العيال.
عكرمة: المديون.
أبو سنان: ذُو الزَّمانَةِ.
ابن جبير: الذي ليس له أحد.
وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه.
وقال أبو حامد الخارَزَنْجِيّ: المتربة هنا: من التَّرِيب؛ وهي شدة الحال.
يقال ترِب: إذا افتقر.
قال الهُذَلِيّ:
وكُنَّا إذا ما الضيفُ حَلَّ بأرْضِنا ** سَفَكْنا دِماءَ البُدْن في تُرْبة الحالِ

وقرأ ابن كثِير وأبو عمرو والكسائيّ: {فَكَّ} بفتح الكاف، على الفعل الماضي.
{رقبة} نصباً لكونها مفعولاً {أو أَطْعَمَ} بفتح الهمزة ونصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضاً؛ لقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} فهذا أشكل ب {فكَّ وأَطعمَ}.
وقرأ الباقون: {فَكُّ} رفعاً، على أنه مصدر فككت.
{رقبة} خفض بالإضافة.
{أو إِطعامٌ} بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضاً.
واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم؛ لأنه تفسير لقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}؟ ثم أخبره فقال: {فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعَامٌ}.
المعنى: اقتحام العقبة: فكّ رقبة أو إطعام.
ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى؛ أي ولا فَكَّ رقبة، ولا أطعمَ في يومٍ ذا مسغبة؛ فكيف يجاوز العقبة.
وقرأ الحسن وأبو رَجاء: {ذا مسغبة} بالنصب على أنه مفعول {إطعام} أي يطعمون ذا مسغبة و{يَتيماً} بدل منه.
الباقون {ذِي مسغبة} فهو صفة ل {يوم}.
ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور؛ لأن قوله: {في يوم} ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفاً له على المعنى دون اللفظ. اهـ.